أوهام نتنياهو- تصفير المقاومة في غزة ضرب من الخيال

المؤلف: د. عمار علي حسن10.12.2025
أوهام نتنياهو- تصفير المقاومة في غزة ضرب من الخيال

تُظهر التسريبات القادمة من مفاوضات "اليوم التالي للحرب" أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يُخطط لمرحلة ما بعد الحرب في غزة بشكل يهدف إلى القضاء التام على المقاومة الفلسطينية، وتقليص قدراتها إلى أدنى مستوياتها.

إن اقتراحات نتنياهو حول إبقاء قوات إسرائيلية في محور صلاح الدين أو نتساريم، أو إعادة المستوطنات إلى غزة، أو ضم أجزاء من القطاع، أو حتى الحفاظ على تواجد عسكري في محيطه كما كان قبل السابع من أكتوبر 2023، تستلزم إما إبادة جميع المقاومين أو استسلامهم الجماعي، يتبعه تسريحهم بعد نزع أسلحتهم وتدمير البنية التحتية التي قاموا بإنشائها، وعلى رأسها شبكة الأنفاق وورش تصنيع الأسلحة، بل واقتلاع فكرة المقاومة المسلحة من العقول.

إلا أن هذا يبدو ضربًا من الخيال، وذلك للأسباب التالية:

1- بالرغم من مرور ما يزيد على أحد عشر شهرًا على بدء الحرب، لا تزال المقاومة تمتلك القدرة على إلحاق خسائر يومية بالقوات الإسرائيلية المتمركزة في غزة، سواء في الأرواح أو المعدات، بل وتستطيع قصف المدن والبلدات الإسرائيلية بالصواريخ.

2- تقوم المقاومة بتعويض خسائرها البشرية عن طريق تجنيد شباب جدد، وقد رأينا بعضهم يشاركون في القتال بكفاءة عالية، ويحرصون على الإعلان، قبل الاشتباك أو إطلاق النار على مواقع القوات الإسرائيلية، أنهم من المقاتلين الذين انضموا إلى صفوف المقاومة في عام 2024.

3- اكتسبت المقاومة خبرة قتالية جديدة، أبرزها "التصويب من المسافة صفر"، وهو أمر لم يتحقق لها بهذه الكثافة والمدة في الحروب السابقة التي اندلعت في أعوام 2008 و2012 و2021.

4- نجحت المقاومة في ترميم التصدعات التي أصابتها في الحروب السابقة، سواء على مستوى خبرة القادة الميدانيين والعناصر المقاتلة، أو على مستوى الخسائر في التسليح، وذلك في أغلب الأحيان بجهود ذاتية. وتشير التجربة العملية إلى أن مسار المقاومة كان دائمًا في تصاعد، وإذا ما تراجع قليلًا بفعل الضربات الإسرائيلية المستمرة، فإنه سرعان ما ينهض من جديد، ليصل إلى مستوى أعلى مما كان عليه في السابق.

لقد اعتمد الفلسطينيون على الكفاح المسلح منذ ثلاثينيات القرن العشرين، واستمروا فيه بأدوات بسيطة بعد احتلال غزة في عام 1967، حيث بدأوا بتصنيع قنابل بدائية من رؤوس أعواد الكبريت والمسامير، ثم انتقلوا إلى البنادق والصواريخ محدودة المدى والقدرة التدميرية، حتى أصبحوا قادرين على قصف تل أبيب نفسها، وبنوا الأنفاق التي تساعدهم على مواجهة التفوق الجوي الإسرائيلي الساحق.

5- ترسخت فكرة المقاومة المسلحة في نفوس جيل جديد، يمتد من غزة إلى الضفة الغربية، خاصة بعد أن أدرك الفلسطينيون تمامًا أنهم لن يحققوا شيئًا من خلال الدخول في هدن متتالية، أو تفاهمات مرحلية لا تضمن منع الاعتداءات المتكررة، أو مفاوضات سلام عبثية ومرهقة لا طائل منها، أو حتى التعلق بأي أمل كاذب في وفاء إسرائيل بالتزاماتها كقوة احتلال.

6- استمر الحاضن الاجتماعي للمقاومة، وفشلت جميع محاولات إسرائيل في تأليب أهالي غزة على فصائل المقاومة، بل إن الكثيرين من سكان غزة، إن لم يكن جميعهم، أصبحوا يرغبون في الانتقام من الجيش الإسرائيلي، الذي قتل أحبائهم، ودمر منازلهم، وهجرهم، وتسبب في معاناتهم من الجوع والمرض، وعطل حياتهم لسنوات قادمة.

لقد سعت إسرائيل إلى إنهاء هذا الحاضن تمامًا من خلال تبني فكرة تهجير سكان غزة، وطرحت هذه الفكرة بشكل علني وصريح في الأسابيع الأولى من الحرب، ووضعت لها الخطط اللازمة، وجاء القصف الممنهج للبنية التحتية المدنية ليصب في هذا الاتجاه، حيث تم قصف المستشفيات والمدارس وملاجئ الإيواء ومحطات تحلية المياه وشبكات الصرف الصحي والعديد من المنازل السكنية، وتم تهجير السكان من الشمال إلى الوسط، ومن الوسط إلى الجنوب، ولكن أهالي غزة، على الرغم من الألم الشديد، تمسكوا بالبقاء، بل دافعوا عنه ببسالة.

7- تعززت القناعة بأن الصراع هو صراع فلسطيني ـ إسرائيلي بالدرجة الأولى، خاصة في ظل الموقف العربي الذي لا يزال أقل من توقعات الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، وكذلك في داخل إسرائيل نفسها وفي الشتات. وهذا يعني أن الفلسطينيين سيتجهون أكثر نحو الاعتماد على قدراتهم الذاتية، وسيؤمنون بأن الاستجابة يجب أن تكون على قدر التحدي المفروض عليهم.

8- هناك تجربة عسكرية وسياسية إسرائيلية سابقة تلقي بظلال سلبية على تعامل تل أبيب مع سكان غزة في المستقبل. فإسرائيل احتلت القطاع لسنوات طويلة، وأقامت المستوطنات، وثبتت مراكز تواجد القوات الحارسة والقمعية، ولم تتوانَ عن جمع المعلومات والمراقبة الدقيقة والمستمرة، ولم تتوقف عن اتخاذ إجراءات لاستمالة أهالي غزة بهدف إخماد عزيمتهم، ولكن كل هذا ذهب أدراج الرياح، واضطرت في النهاية إلى تفكيك مستوطناتها وسحب قواتها، مودعةً بعبارة إسحاق رابين: "أتمنى أن أستيقظ فأجد البحر قد ابتلع غزة".

9- خطة نتنياهو تواجه رفضًا من أطراف خارجية، فمصر ترفض بقاء الجيش الإسرائيلي في محور صلاح الدين، وتعتبر ذلك خرقًا لمعاهدة السلام الموقعة مع إسرائيل عام 1979. والعديد من الدول تعلن عدم قبولها لعودة احتلال غزة، وتفكر في إجراءات بديلة لإدارة القطاع بعد الحرب.

10- هناك تجارب عديدة للمقاومة المسلحة في التاريخ الحديث والمعاصر تثبت بوضوح أن أي مقاومة مسلحة ضد احتلال لم تنته تمامًا، حتى لو تعرضت لانتكاسات أو هزائم مؤقتة، خاصة إذا كانت هذه المقاومة مبنية على فكرة. فالمقاتلون يُقتلون أو يُصابون أو يتقاعدون، والأسلحة تُدمر، ولكن الفكرة لا تموت، بل تجذب إليها رجالًا جدد يجسدونها في عمل على الأرض.

وإذا ما أقدمت إسرائيل على إعادة احتلال مناطق في غزة، كما يطمح نتنياهو، فإن المقاومة ستكتسب المزيد من الشرعية، التي يمنحها لها القانون الدولي، وخاصة اتفاقية جنيف، وستحظى بتعاطف خارجي لا يخبو، وستجذب إليها المزيد من الأنظار المعجبة بها، كلما نجحت في إلحاق أي خسارة بعدوها.

وبناءً على هذه الاعتبارات العشرة، فإن تفكير نتنياهو في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والقضاء على المقاومة بشكل كامل، هو ضرب من الوهم، وهو أمر يدركه بعض الساسة الإسرائيليين، وخاصة من المعارضة الحالية، وكذلك بعض القادة العسكريين وضباط الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، بل وتدركه الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، التي تدعم إسرائيل بلا حدود.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة